في خطابه أمام البرلمان الأوروبّي في السابع عشر من شهر نيسان الحاليّ، حذّر الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون من أنّ العالم، وليست أوروبا وحدها، يشهدان عودة للقوميّات والدكتاتوريّات. ما يعني تلقائيّاً بأنّ النموذج الديمقراطي الذي يدّعي الغرب أنّه من روّاده قد فشل أو على وشك ذلك.
أرى أنّ المشكلة ليست في الديمقراطيّة إنّما في من يطبّقها؛ فالديمقراطيّة الحقّة تتطلّب إنسانيّةً ومجتمعاً مُنفَتِحَين بحقْ على الغير؛ وواثقَين بحقّ بأنفسهم ومؤمِنَينِ بحقّ بقيمٍ سامية لا يتردّدان في تطبيقها وفي الدفاع عنها بغضّ النظر عن المصالح والتكاليف والجهود
إلى غالبيّة القرّاء الذين يعتقدون بأننيّ أغالي في المثاليّة أقول بأنّ الانسان الحكيم هو من يتّعظ من أخطائه ويتجنّب تكرارها. ومع مرور الزمن، ورويداً رويداً، تتراكم الإيجابيات ويسعى المرء نحو الكمال – علماً بأنّنا لن نبلغه قط ولكن، وعلى أقلّ تقدير، يشكّل سعينا نحوه بوصلةً تُبقينا على المسار السليم بعد كل انحراف.
أرى بأنّ إدّعاء الغرب ب”التفوّق الحضاريّ” و”القيادة ” مردّه الى تسلّط المنطق على نمط حياة الأفراد في تلك الدول ممّا دفعهم الى الكبرياء بدلاً من الحكمة. بعيداً عن التعميم، ولكن بدلاً من أن يكون التقدّم العلمي (المنطق) سبيلاً نحو التواضع والحكمة (وليس غايةً نهائيّة بحدّ نفسه)؛ انحرف الغربيّون بسبب ضحالة جذور معتقداتهم وطراوة حضارتهم بالإضافة الى نهمهم الى الكسب الماديّ عن القيم الانسانيّة العليا. بقليلٍ من التّفاني وكثير الكلام المعسول والمنمّق والمُضَلِّل والماكر صَوَّروا أنفسهم للداخل والخارج أنّهم واثقون وحازمون وناهٍين في ما يدّعون ويزعمون بدلاً من أن يصارحوا أنفسهم وغيرهم بأنّ “اكتشافاتهم” آنيّة وموضعيّة وهي قائمة أساساً على افتراضات جدّ ظرفيّة وموضع شكّ وجدل ونقض في كل حين. باكراً ما أيقن ساستهم وعلماؤهم ومفكّريهم وعموم شعوبهم هذه الحقائق ولكن اختاروا أن يتنكّروا لها وأن يتخدّروا بالقليل من المتعة الآنيّة التي أمّنتها لهم الظروف الى أن وقعوا ضحايا أوهامهم.
سأحاول أن أبيّن كيف أنّ المنطق الصرف والمحض علميّ أودى بالغربيّين في نفقٍ من الأحاديّة في التفكير التي وبدورها جعلتهم قصيري النظر، يتقدّمون محنيّي الرؤوس، مطأطئيها، لا يرون “أبعد من أنوفهم”؛ يعيشون بغالبيتهم في مجتمعات لا تؤمن إلَا بما تمليه عليهم حواسهم وتفوتهم البصيرة والقدرة على التعاطف؛ فحتى إذا رأوا لا يفهمون وإذا فهموا لا يجرأون على مجاراة ما تمليه عليه ضمائرهم لا لسبب إلّا خداعهم لأنفسهم أوّلاً وضعف ثقتهم بأنفسهم وبقيمهم ثانياً ولغياب أهدافٍ سامية ثالثاً وطمعهم المادي رابعاً. فإذا لم يؤمنوا ويمارسوا، عن حقٍّ وحقيق وعلى أوسع نطاق، بقيمهم وبتعاليمهم الديمقراطية؛ فهل سيفعل الغير؟ّ! فالحكمة تقول “يمكنك الكذب على بعض الناس بعض الوقت، ولكن لا يمكنك الكذب على كل الناس كل الوقت”.
لا يظننّ أحد بأنّني ضد التقدّم العلمي او حياة الرفاهية؛ على العكس من ذلك فأنا من أشدّ المؤمنين بالعمل والجِدّ والسعي نحو الأفضل في كل مناحي الحياة ولكن؛ كسبيلٍ وليس كغاية بحدّ ذاتها. شخصياً، وبعد أن اختبرت التطرّف في العاطفة ومن ثمّ في المنطق؛ أجد بأن الميزان الأفضل لي هوغلبة العاطفة على العقل بنسبة 55 الى 45% (توخّياً للدقّة!).
أورد في ما يلي بعض الشواهد على سذاجة وزِيف وغلوّ ادّعاءات الغربيين في ريادة الحضارة الانسانية. ولكن قبل الشروع في ذلك، لا بدّ لي من ذكر التقصير الفاضح والفراغ الهائل الذي تركته الحضارات الشرقيّة المُنهكة التي واكبت بداية القرن العشرين والذي شكّل استسلامها الفرصة الذهبيّة لدول الغرب لفرض “قيادتها”؛ فالطبيعة تكره الفراغ لاسيّما اذا تنازل المرء طوعاً عن حقوقه. سأكتفي بهذه البراهين والأدلّة:
-
قيام تقنيّات مثل وسائل التواصل الاجتماعي بتدمير النسيج الاجتماعي وتعريض أمنه الى أضرار غير مسبوقة في التاريخ البشري. وما هي فضيحة “كامبريدج أناليتيكا” واعتراف السيد مارك زوكربرغ بسوء نيّته المُتَعمّد وجهله بالأضرار التي قد تسبّبها شبكة “فايسبوك” إلّا بمَثَلين عن الاستخفاف بحقوق الناس. أمّا القلائل الإثنيّة والمذابح التي مهّدت لها وحضنتها تلك الشبكة في سريلانكا وميانمار واندونيسيا والهند والمكسيك فهي لا تزال ماثلةّ في الأذهان،
-
إطلاق منتجات صناعية (مثل أنسجة الأكريليك التي تسبّب العقم عند الرجال؛ وتفكّك جزئيّات البلاستيك المُستعمل في عبوات المياه المعلّبة) واستعمال المكوّنات الغذائية المُسرطِنة (في المواد الغذائية المحفوظة) والمُحلّيات الصناعية (التي تؤدي الى الاصابة بداء السكّريّ وزيادة الوزن)؛ وهي أمور أدّت الى عكس أهدافها المرجوّة،
-
الاستعمال اللامسؤول للمضادات الحيويّة في تربية الدواجن والمواشي وغيرها من الاستعمالات الصناعية والمنزلية (مثل صابون غسل اليد) والتي أدّت مع الوقت الى تطوّر بكتيريا ال”سوبرباغ” المقاومة للأدوية والتي استعمرت كافة مراكز الاستشفاء وتهدّد بتفشّي الأوبئة القاتلة عالميّاً،
-
الاستغلال الصناعي الجشع للموارد والتلوّث الناجم عنه ما ساهم في تسريع عجلة الاحتباس الحراري وذوبان الكتل الجليدية القطبيّة ممّا يهدّد بارتفاع مدمّر لمياه المحيطات ويمهّد لإبادة المدن الساحليّة. والأدهى من ذلك، بيّنت الدراسات بأنّ إجراءات احتواء الاحتراز الحراري التي أوصى بها المتخصّصين من تلك الدول ساهمت في زيادته فعليّاً (لأن التلوّث الناجم عن حرق الوقود العضوي وبالمحصّلة، يساوي ثلاثة أضعاف مثيله من الوقود الأحفوريّ!)،
-
بحسب دراسات مراكز أبحاث موثوقة، فإنّ ما معدّله 60% من النصائح الطبّية والصحية التي تعرضها برامجهم التلفزيونيّة الموثوقة هي مغلوطة تماماً أو غير مؤكدة بالمرّة،
-
دراسات ودراسات مضادة، شبه يومية، تزكّي الواحدة منها بفوائد أطعمة مثل القهوة والدهون وطرق طهوها (مثالاً على ذلك قلي الطعام بزيت الزيتون) بينما تناقضها الأخرى بحدّة في يوم لاحق. باعتراف أصحاب الاختصاص الغربيّن أنفسهم “أظهرت دراستنا أن العديد من النتائج الطبية، التي نقلتها الصحف، دحضتها دراسات لاحقة، ويعود ذلك جزئياً إلى تفضيل الصحف تغطية الدراسات الأولية (الإيجابية) بدلاً من تغطية الملاحظات العلمية اللاحقة، وسيما تلك التقارير التي تنقل نتائج سلبية. وتشير دراستنا أيضاً أن معظم الصحافيين من الصحافة العامة لا يعرفون أو يفضلون عدم التعامل مع المستويات المرتفعة من الغموض الكامن في الدراسات الطبية المبكرة”.
-
استعمال مواد طبّية لغير أغراضها الأساسيّة (مثل ال”سيليكون” في جراحات التجميل) ثمّ اكتشاف أنها مسمّمة ومسرطنة تسبّب الوفيات، ومن ثمّ التوصية بنزعها وعدم استعمالها،
-
نشر وتعميم سياسة “الفوز بأي ثمن” اجتماعياَ ورياضياً واقتصادياً بغية الكسب المادي وبغضّ النظر عن عواقبها المباشرة وغير المباشرة على الصحّة النفسيّة ةالجسديّة للأفراد والعائلات والمجتمع. وللدلالة على ذلك، أذكر “برامج الواقع” التي تزكّي الاقتداء ب”نجيمات اجتماعية” تعاني من قلّة الثقة بالنفس وعدم الأمان العاطفيّ تستغلّهما لتصوير الحقيقة بعكس ذلك فتروّج بالتالي لانتشار أفكار مغلوطة في عقول الشباب والناس السريعي التأثّر. كما أذكر التشجيع المباشر واللامباشر للشابات على ضرورة اتباع الحميات الغذائية التنحيفيّة تَشبّهاً بعارضات الأزياء ونجمات التلفزيون ممّا ضاعف من انتشار أمراض نفسيّة مثل “الأنوركسيا” و “البوليميا”. علاوةً على ذلك، أذكر الكثير من أشهر الممثّلات والممثّلين في هوليوود اللذين تنازلوا عن كراماتهم الشخصيّة وحقوقهم القانونيّة بسبب الخنوع والخوف على مسيراتهم المهنيّة (بُغية عدم التسبّب باستياء المُتنفّذين من مهاجميهم) بعد حوادث تحرّشات واعتداءات جنسيّة تعرّضوا لها. زِد على ذلك؛ فإنّ الكثيرين من رياضيّيهم يعانون أزمات صحيّة خطيرة خلال أو بعد اعتزالهم لرياضاتهم بسبب الإجهاد ال”ما-فوق-طبيعي” لأجسامهم (منهم من يتناول فوق ال13 حبّة دواء في اليوم الواحد! او المنشّطات الصناعيّة القاتلة مثل ال”ستيروييدات”)،
-
الاستعمار والاستشراق ونظريّة التفوّق الحضاري والعنصرية ومعاداة الساميَة واستعلاء العرق الأبيض والتنمّر الاجتماعي وغيرها من الآفات الاجتماعية (مثل تعاطي الممنوعات بشكل واسع وثقافة التحرّش الجنسي والاستعباد الحديث وتسخيف المعتقدات الاجتماعية والقتل الرحيم)، كما استغلال قضايا اجتماعية محقّة (مثل المساواة بين الجنسين) سوء استغلال لنشر سياسات انحلال أخلاقي إنتشرت دوليّاً بسبب بِدَعٍ أو منظمات أجراميّة مصدرها الدول الصناعية في الغالب،
-
تشكيل مجموعات ضغط لتبرير شتّى أنواع التفلّت الأخلاقي والموضات العابرة والمؤذية مثل جراحات “تجميلية” للحوض عند النساء وتقوير الوجنات وغيرها من الامور النابعة من السطحيّة في التفكيرأو سعياً وراء التربّح المادي. وهذا ما يؤدّي الى ديسمورفيا جسديّة ومضاعفة الشعور بعدم الأمان النفسي لدى الكثيرين ممّن خضعوا لتلك الجراحات ومن ثمّ ندمهم وصراعهم لإعادة عقارب الساعة الى الوراء،
-
إنغماس غالبيّة المؤسّسات الماليّة والبنوك الدولية (خاصة تلك التي تدّعي أقصى درجات النزاهة والرِفعة) في عمليات تبييض الاموال “من رؤوسها الى كعوبها”. وأودّ التذكير بأنّ العديد من هذه الشركات تمّت إدانتها بالتآمر في ما بينها لتحديد سقوف دُنيا لكلفة الدين أذكر منها مصارف ال “أتش أس بي سي” و”يو بي أس” و”دويتشه بنك”،
-
الغش الذي تمارسه كبرى شركات السيارت الغربية مثل “في دبليو” و “ب. أم. في.” و”أودي” و”مرسيدس” وغيرها لاحتكار الاسواق وللغشّ في أرقام إصدارات التلوّث الناجم عن حرق وقود آليّاتهم،
-
تفكّك الأُسَر والعائلات وتجاوز معدّلات الطلاق نسبة الخمسين بالمائة. فبحسب الاحصائبات، واحد من أصل كل خمس مراهقين غربيّين فكّر بالانتحار بسبب غياب الدعم العائلي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والضغوط الاجتماعيّة. من الملفت للنظر بأن نسبة الانتحار هي أعلاها لدى الرجال ما فوق الخمسين من العمر (ويعود ذلك بنظري الى الوحدة القاتلة التي يعانون منها بعد أن بذلوا كل شيء في سبيل المال والمصالح المادّية الى أن وجدوا أنفسهم فجأةً وحيدين في خريف العمر)،
-
خضوع معظم المجتمعات الغربيّة لسياسات “ليّ الذراع” و”الأمر الواقع” تحت حجّة “الواقعية السياسية أو ال”Real Politik” كما سيحدث عند قبولهم لكوريا الشماليّة كدولة نوويّة حسب ما أظنّ. فالمواطنون الغربيّون لا يملكون سوى فترات قصيرة من الاهتمام وهم سريعين في تغيير قناعاتهم واتجاهاتهم لضحالة معتقداتهم وهوسهم عندما يتعلّق الأمر براحتهم وبأموالهم،
-
الوصم بالعار لكل من عانى من مرضٍ نفسيّ أو جسديّ (مثل البدانة أوالاكتئاب أوالتشوّه الخلقيّ على سبيل المثال لا الحصر)، ومن ثم الانتباه الى الأثر التدميريّ لذلك ومحاولة العودة عن الخطأ والتعويض على أناسٍ هُدِمت حيواتهم أو أنهاروا، فانتحروا،
-
يتعرّض المواطنون الغربيّون لضغوطٍ شتّى لا تُحتَمل بسبب الفِرط في القوننة ومخاطر المقاضاة لأتفه الاسباب؛ ضغوطٌ يحاولون التهرّب منها بشتّى الذرائع والحجج ممّا ينعكس ارتفاعاً في معدّلات الجرائم ومخالفة القوانين والانحرافات الاجتماعية المُضحِكة-المُبكِية في أكثر ألأحيان. لا أبالغ عندما أستشهد بالأمثلة التالية البسيطة ولكن المعبِّرة عن المعيشة في مخاوف دائمة: إنّ كثيراً من الحدائق العامة نزعت مراويح الأطفال منعاً من المقاضاة بعد سقوط أولادٍ عنها – بسبب الانتشار المخيف للبيدوفيليا، كثيراً ما يتمّ استدعاء الشرطة على عجل في حال رأى أيٍّ كان لبالغٍ في السن يقبّل طفلاً (من الأرجح هو ولده!) – في بريطانيا مثلاً، يعاني ثلث السكّان من مرض الاكتئاب والقلق – كثيراً ما يلجأ مواطني دول الغرب الى “”استئجار”” شخص “يعانقهم” فقط وليس لأكثر من ذلك بسبب إنعدام أو شبه إنعدام الشعور بالتعاطف بين الناس والعائلات – من الأمثلة المضحكة، قيام خالة أحد الأطفال بمقاضاة إختها لا لشيء إلّا لأن معانقة ولد الأخيرة تسبّبت لها برضّة رتّبت عليها تكاليف طبّيّة! وللقارئ الذي يظنّ بأنّ هذه الحوادث نادرة ولا يُبنى عليها أقول أنّك مخطئ وهي ممارسات شائعة جدّاً في أوساطهم وأنماط مقارباتهم للأمور الحياتيّة،
-
بوتيرةٍ متصاعدة، بدأت تتفلّت التجمّعات الحضريّة الأمريكيّة من اعتمادها على الشرطة لإنفاذ القوانين مثلما يحدث في مقاطعات ولاية “أوكلاند” ألآن. وأتوقّع للأمريكيّين أن يزيدوا من تأييدهم للنزعة الديكتاتوريّة للرئيس ترامب لأنّه سيستميلهم ببعض النجاحات الظرفيّة والخادعة، وكردّة فعل على فرط القوننة وفساد الأجهزة الأمنية والقضائيّة المستشري وعنصريّتها وسَأَمِهم منها ثانياً،
-
بحسب أحدث دراسة، ومنذ العام 2012، تعرّض 208،000 تلميذ ثانوي لعنف السلاح في أكثر من 212 مدرسة أمريكية. فالعنف الدراسيّ الأعمى والمذابح بالجملة التي تشهدها شتّى الولايات الأمريكية بشكل شبه يوميّ مردّه بنظري الى االقوالب المُصطَنعة والمُسَطَّحة التي يُتوقّع منهم الاقتياد بها والضغوط الهائلة التي يرزح تحتها شبابهم في مراحل مبكّرة جدّاً من العمر،
-
انتخاب رئيس لأقوى دولة عظمى شديد التأثّر ومزاجيّ يجاهرعلناً بالكذب والفساد ويفاخر بهما،