تاريخيًّا، أحكم الاستعمار قبضتهُ على خناق الدّول بوساطة إغراقها في الدّيون ثمّ استيفاء حقوقه بنهب مواردها الاقتصاديّة والطّبيعيّة. عند محاولة أيّ دولةٍ من الدّول المدينَة الإفلات من تلك القبضة، عرّضت هذه الأخيرة نفسها إلى عقوبات جماعيّة، ومقاطعة، واقتصاص الهيئات الدّوليّة والمصارف والتّكتّلات الكبرى الّتي أنتجها الغربيّون لتعمل كقطيعٍ من الذّئاب وظيفته إنشاء مجموعات ضغط ومُطَاردة، تؤدي وظيفة الجلّاد بكفاءةٍ لم تكن متاحةً لأيٍّ منها على أدائها فيما لو عملت مُنفردة، وقد أثبتت هذه (الاستراتيجيّة) فاعليّةً وديمومة أكثر من ركون الدّول الغربيّة إلى استعمال القوّة العسكريّة الّتي لم تبخل في استعمالها. هذا النّمط التّاريخي، أكّده لنا أبرز المثقّفين العرب، مثل: إدوار سعيد في كتاب «الاستشراق»، وألبير حوراني في «تاريخ الشّعوب العربيّة» على سبيل المثال لا الحصر.
برأي، إنّ وهج (التّفوّق الحضاريّ) الّذي ولّدته الثّورة الصّناعيّة الغربيّة قد بدأ يخفت بوتيرةٍ مُتسارعة، حتّى لا أقول بأنّه على وشك الأفول للأسباب الّتي أفصحت عنها في مقالاتي السّابقة؛ للتّذكير: دمار نسيج الدّول الغربيّة الاجتماعيّ وانحدار الحياة المدنيّة وتدهورها، إضافةً إلى الجنوح المُتدرّج لأنظمتهم نحو (الدّيكتاتوريّة) بسبب التّطرّف في اعتماد المنطق والعلم كركيزةٍ أساسيّة للحضارة، وما انتخاب الرّئيس ترامب وصعود اليمين المتطرّف في أنحاء أوروبا كافّةً سوى خير دليل على ذلك.
أدركُ تمامًا بأنّ الثّورة في تكنولوجيا الاتّصالات، والمعلومات، والعلوم الحيويّة إضافةً إلى غيرها في كلّ المجالات ما هي إلّا في بداياتها؛ ولكن المردود المتوقّع منها سيكون متضائلًا بنظري لأنّها بدأت تصبو وتدريجيًّا إلى المغالاة، والتّسخيف، وعقم التّفاصيل؛ ترمي إلى تصفية الماء من البعوضة! فما الفائدة إذا كسبت البشريّة سباق التّكنولوجيا وخسرت نفسها؟ فكلّ ما بُنِيَ على باطلٍ، هو باطل.
لقد حان لنا الوقت كشعوبٍ شرقيّةٍ أن نكون أكثر انتقائية في تعاملاتنا مع الدّول الصّناعيّة وأقلّ تسليمًا بطرائقها، وقيمها، وما ترمي إليه وتستهدفه، وخاصّةً أقلّ انبهارًا بتقنيّاتها. علينا أن نستخلص الدّروس من الأحداث والتّطوّرات الّسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تشهدها تلك المجتمعات واختيار ما يُناسبنا منها وطرح الباقي جانبًا مهما علا وكثُرَ عدد وضجيج المصفّقين والمنتقدين والمشكّكين في صفوفنا.
حفاظًا على الموضوعيّة والنّقد البنّاء، علينا أن نطرحَ البديل وأن نُسهم مجدّدًا مع غيرنا من الدّول الشّرقيّة كاليابان، والهند، وروسيا، في تقدّم الحضارة الإنسانيّة. أمّا طرح البديل فيتطلّب خلوقيّةً وإقدامًا وشجاعةً افتقدناها منذ أكثر من (100) عامٍ في الأقلّ، وهو يتطلّب إرادةً، وجهودًا، وأثمانًا، وتضحيات.
بعيداً عن التّعميم؛ ولكنّنا كأفرادٍ، غالبًا ما نبحثُ عن المكسب الآنيّ والمادّي مُتغاضين عن تبعاتِ خياراتنا وانعكاساتها البعيدة المدى. فإذا ما رغبنا بشيءٍ، استوردناه، وهذا طبيعيّ. هذا –بالتّحديد- ما أقدمت عليه أممٌ كثيرة مثل: اليابان (ما بعد الحرب العالميّة الثّانية)، والهند، والصّين، والبرازيل؛ ولكنّ هذه المجتمعات لم تكتفِ بذلك؛ فبعد أن التقطت أنفاسها واعتمدت على استيراد المعرفة، بدأت بتطوير قدراتها الذّاتيّة بانتهاج سياسة التّقليد واستعمال تقنية تُعرَف باسم «الهندسة المعكوسة». رويدًا رويدًا، راكمت هذه المجتمعات المعرفة وبدأت بتطوير بناها التّحتيّة وتأهيل مواردها البشريّة والاستثمار في البحث والتّطوير بعيدَي المدى بغية ابتكار أفكار ومنتجات وخِدْمات ضاعفت من أرباحها التجاريّة بالدّرجة الأُولى. أمّا الأهمّ فكان أنّها عزّزت احترام النّفس، والمصداقيّة، وانتزعت اعتراف الغير، وأكّدت شخصيّتها الوطنيّة. أصرّت تلك الدّول على امتلاكها لمقدّراتها والتّخفيف من تأثير الضّغوطات الأجنبيّة في استقلاليّة قراراتها والتحكّم بمصائرها، ولتبيان مدى أهمّية الإرادة الوطنيّة في بلوغ أرقى المراتب، فما علينا إلّا الالتفات إلى القيادة الاستثنائيّة لدولة الإمارات العربيّة المتّحدة لما حقّقته في كلّ المجالات وسعيها الدّؤوب الى بلوغِ المزيد. الدّولة الإماراتيّة هي بحقٍّ من مصافِ الدّول الأكثر تقدّمًا وتحضّرًا. هذا ما يمدّني بالأمل والثّقة كمواطنٍ عربيّ.
تحظى الاقتصادات الشّرقيّة والعربيّة على وجه الخصوصِ بالمصادر المطلوبة كرأس المال والمهارات؛ ما يدفعُ للسّؤال لماذا لا نستخدم عمومًا مقدراتنا على الوجهِ المفروض؟
لقد حقّق الغربُ قفزات ونجاحات في مجالين أساسيين: قبول المخاطرة، والحوكمة الجيّدة. هاتان الصّفتان أساسيتان لتشجيع الابتكار وتطبيق مبدأ المحاسبة أو المكافأة على المستويين الفرديّ والمجتمعي، وإنّي لا أرى أيّ عوامل نجاح أُخرى لا نحظى بها نحن الشّرقيّين وبوفرة. كلا الصّفتين هما ضمن المقدرات الإنسانيّة الّتي يُمكن استغلالها على الدّوام على افتراض أنّنا نملك الإرادة الكافية.
إنّ وجودَ أو عدم وجود الإرادة ينطبق على كامل أوجه المجتمع بدءًا من السّياسة، مرورًا بالاقتصاد، وانتقالًا إلى علوم الأحياء والبحث العلميّ … وانتهاءً بالفكر والإعلام والصّحافة.
النّقاط الثّلاث الأخيرة ينبغي لي التوقّف عندها نظرًا إلى أهمّيتها في نشر الوعي الجماعي وتأثيرها في الرّأي العام.
… يُتبع
