التفرنج ليس بهذه الأهمية

أنا متوغل في مثالية أصابتني نوعاً ما بالخيبة، وأحالتني إلى فئة أصحاب التصوّر  الذين يحوّلون الأفكار إلى وقائع.

وعلى الرغم من بعض المحاولات المشجعة، أدركت أن ليس باستطاعتي إحداث “التغيير” على نطاق واسع في وطني الأمّ، فانتقلت للعيش في الإمارات – لقد كنت بحاجة لأن أكون “براغماتياً.

وصلت للإمارات قبل عشر سنوات أحمل عقد عمل وأتحلى بآفاق مهنيّة مبشّرة. وكنت اشتري حاجيّاتي حينها دون أن أنظر لسعرها، وقد أصبحت “مادياً.

وبعد مرور عامين أطلقت عملي الخاص في البلد الذي سرّع تطوّري الفكري والمهاراتي، وأثار رغبة جامحة على الانفتاح العالمي، وكان لزاماً عليّ أن أصبح أكثر  “تفرنجاً.

وقمت بتصفية أعمالي في الإمارات، وانتقلت إلى أميركا الشمالية سعياً لدفع عجلة تطوري المهنيّ، واستسلاماً لمغريات الاستقرار  الدائم.

أميركا مرتع الديمقراطية وحكم القانون وفرص الأعمال، ومع ذلك فقد تركت لديّ شعوراً بالنقص على كافة المستويات تقريباً. وتميل كفة ميزان العمل/الحياة بوضوح نحو الأوّل،  لكن الأدهى كان اكتشافي أن الضمانات الأخلاقية والحضارية شبه مفرّغة المضمون.

وما لم أكن مخطئاً فإن سفراتي في معظم أنحاء نصف الكرة الغربي قد سلّطت الضوء على الفراغ الجاثم على القيم الاجتماعيّة والدينيّة فيها، وعلى المجتمعات التي لا قيادة لها، الغارقة في الاستهلاكية، وفرط التنظيم، والأهداف المهنيّة الماحقة؛كما بنخب السياسة والأعمال المهووسة بالتزلّف عبر تقديم الخدمات إلى قواعدها الشعبية بأي طريقة ممكنة وبأي ثمن كان.

وبغياب الالتزام الراسخ بمنظومة معتقدات المجتمعات الغربية، وجد “الانحلال الحديث” (على حدّ تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) طريقه للتغلغل. على المستوى الفردي، يبدو  أن أي “معتقد جديد” أو مبرّر ذاتيّ يؤمن به المواطن الغربي بشدّة يتحوّل  إلى حقيقة بنظره. وامتداداً، وعلى المستوى الكليّ، فإن الغربييّن يفترضون أن البشر لا يرغبون بشيء في الحياة أكثر من حياة مريحة، حيث الرفاه والبحبوحة والسياسة تتمحور حصرياً حول حمايتهم وتأمينهم. إن ليبراليّتهم ورأسماليّتهم وبراغماتيّتهم لا تملك شيئاً أوسع وأعمق، ولا تحظى بأي روحيّة، حرّية، مصداقيّة أو شجاعة تستحقّ اتخاذ موقف بشأنها.

لم يعد هناك وجود لأدوات التشخيص الديني، ومعايير الكمال التي ينبغي للناس التماهي بها، كما  لعلامات القياس التي تظهر مدى وقوع الناس في الخطأ والخطيئة. وفي ظل غياب التوجّه والهدف الأخلاقيّين، فإن القوى الظلامية تستحكم، وينخر انزلاق الغرب في تيار العولمة الحرمات الثقافية، التي تشكل آخر وأهم المعاقل التي تحول عائقاً بين الكبرياء والتواضع، والادّعاء والصدق والجهل والحكمة.

وتغيب عن الغربيين الجوانب الأكثر أهمية لشتى الحضارات القديمة المذهلة، لأنهم ينظرون إليها من زاوية تيار الحضارات الغربية باعتبارها الأكثر تقدماً. لكني أرى أن الغربيّين يتبعون أسلوب حياة قائم على فرديّة قاسية خالية من أيّ أثر  للرحمة. ولا يغدو مفاجئاً في ذلك العالم الساحق روحياً، الحافل بالضغوطات المتعنّتة، والفرز العاطفي والروحي، ملاحظة سعي معظم المواطنين الغربييّن لاتباع كافة أنواع النزعات العبثية تحاشياً لمزيد من الضغوطات والقيود. وتحفل مجتمعات الغرب على اختلاف مشارب حياة أفرادها وبمعزل عن الطبقة والدخل والعمر والمستوى التعليمي بعيوب متعاظمة تشكّل انتهاكاً للمبادئ والقوانين كتعاطي الممنوعات، والعنصريّة، والعنف، والإسراف في الشرب، والجشع، وكره الأجانب، وغياب التسامح الديني، والقتل الرحيم، ذلك على سبيل المثال لا الحصر.

ويتبدّى أنّ حملات التوعية والإدراك ومساعي الجهات الخاصة والرسمية للتصدي لتلك الظواهر  تحظى بتأثير وتغطية محدودين. وعادةً ما تنزع مجتمعات الغرب على نطاق واسع لأن تقوم بالأعمال الخيرية  في العلن لكسب الثناء، وتخفق في الواقع في الاعتراف والإعلان عن سوء أعمالها والتوبة.

أضف إلى ذلك إغفال شعوب الغرب عن إحجام الحضارة الشرقية الأكثر  رشداً، وعمداً، عن ترجيح كفّة الأهداف الاقتصاديّة على الأعراف الاجتماعية والثقافية. فعلى الرغم من الأصول الماليّة والتقنيّة والاستخباراتيّة والبشرية الهائلة المتوافرة لهم، كان صنّاع القرار والمحلّلون الغربيّون، ولا يزالون على الأرجح مخطئين ومضلَّلين فيما يتعلق بالسياسات الدولية والفروقات الثقافية بين الشرق والغرب. وينصِّب هؤلاء أنفسهم، معزَزين بإحساس مبالغ به بالاستقامة الذاتيّة والتعامل في غالب الأحيان مع دول متخاذلة انهزاميّة، كحرّاس للأمم الأخرى. وأعتقد أن ما يسمى بالتعدّدية الثقافيّة في أوروبّا وبقيّة الغرب لم تفشل، بل إن الماديّة الوحشية والأحاديّة التفكير كانت ولا تزال، تعمل على تهميش أجيال المهاجرين.

أما بالنسبة للشعوب التي لا تملك شيئاً أكبر وأكثر عمقاً ولا تتمتّع بروحيّة تستحق اتخاذ موقف بشأنها، فإنه لا يفاجئنا كثيراً أن تستمر الدول الصناعية في خذلان كل من يراهن أو يتّكل على الغرب للحصول على المساعدة. ولا بدّ لأيّ شخص أو كاتب في المقام الأول أن يعيش ويختبر ويتعمق ليتوصل إلى فهم السبب الذي يحيل شعوب الغرب وسياسييه متقلّبين متذبذبين.

ويمكننا لحسن الحظ النظر إلى الشرق من أجل بدائل أفضل عن أسلوب حياة الغرب. فالمجتمعات الشرقيّة تقيم توازناً صالحاً بين الأعراف الأخلاقيّة والاجتماعيّة الصحيّة دون أن تبطّل غايات الشركات والأعمال.

وتشكّل الهند التي تعتبر الديمقراطية الأكثر اكتظاظاً بالسّكان على وجه الأرض، قوة صناعيّة أساسية، وتحقق قفزات هائلة في النمو. وتخضع هذه الأمّة لتغيّرات هامّة على الصعيد السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي، وتصون في الوقت عينه هويّتها الثقافيّة. وتشكّل التركيبة العائليّة ومزيج التقاليد المعقّدة التي يعتبرها البعض معرقلةً، أحد العوامل القليلة الحاسمة على الأرجح التي تتيح لهذه الحضارة أن تبقى راسخة وصدوقة، وأن تتحوّل ذاتيّاً لتشكّل علامة عالمية متفردة تركت تأثيرها العميق على امتداد العالم.

وعلى نحو مماثل، تعتبر اليابان، ثالث أكبر اقتصادات العالم، حضارةً آسرة متعدّدة الأوجه، فهي من ناحية متجذّرة في بوتقة تقاليد ضاربة في القدم تعود لآلاف السنوات، ومجتمع شاهد على تغيّر مستمر سريع الوتيرة، وتيّارات وتصاميم دائمة التبدّل وتقدّم تكنولوجيّ متواصل. وقد حافظت الأعراف الاجتماعية والفنون التقليدية والرياضات على الطابع الوطنيّ، والشرف والاستقامة، والهدف، والاستثنائية التي تشتهر بها اليابان.

وقد تفطّن فلاديمير بوتين لأسباب وغايات في نفسه إلى كشف الخطب الذي حلّ بالغرب. ويتسم الدور الأساسي للثقافة الروسيّة بتأمين الأسس للتوجّهات الروحيّة والأخلاقيّة. وقد تمسّك الروس بقوة بحقيقتهم ومعتقداتهم باعتبارها مفاهيم بغاية الخصوصية. الصداقات حقيقيّة، أمّا الوقت والمال فذات أولوية متدنّية عن بقيّة المجتمعات. وعلى الرغم من التمترس خلف غشاء صلب، يتبيّن أنّ الثقافة الروسيّة الحقيقية ظاهرة فريدة، سيما فيما يتعلّق بالثقة .

وتندرج الصّين على قائمة أمم الشرق الأخرى الأكثر الأوتوقراطية المعتمدة على ذاتها ، التي نجت من أفخاخ عسل الثقافات الغربية لتحقق مستويات مقبولة من النجاح ولو بشكل متفاوت.

إن الغرب أكثر حاجة إلينا مما نحن إليه، سيما لناحية الدول المنتشرة في الغربي المتّكلة بشدة على الموارد الطبيعية للشرق، وثرواته القومية، ومقدّراته الفكرية والعلمية، وأسواقه الاستهلاكيّة وتراثه الثقافيّ العالميّ. يتسّم التفرنج بأنه على قدر من الأهمية، لكنه ليس بالشيء العظيم، ولا بدّ في الواقع من التعامل معه بتوجّس وبجرعات محدّدة.

لكلّ ثقافة حسناتها وسيئاتها، لكنّنا إذا وضعنا هذه الحقيقة جانباً، نجد أن غالبيّة الدول الغربية تتمتع بقيم مادية ساحقة على نحو لا يصدق.

وتحظى الاقتصادات الشرقيّة والعربيّة على وجه الخصوص بالمصادر المطلوبة كرأس المال والمهارات، مما يدفع للسؤال لماذا لا نستخدم عموماً مقدراتنا بالشكل المفروض.

لقد حقق الغرب قفزات ونجاحات في مجالين أساسيين: قبول المخاطرة، والحوكمة الجيدة. وهاتان الصفتان اساسيتان لتشجيع الابتكار تطبيق مبدأ المحاسبة او المكافأة على المستويين الفردي والمجتمعي. وإني لا أرى أية عوامل نجاح أخرى لا نحظى بها نحن الشرقيين وبوفرة. وكلا الصفتين هما ضمن المقدرات الإنسانية التي يمكن استغلالها على الدوام على افتراض أننا نملك إرادة السلطة الكافية. ينخرط الغربيون في أية مهمة تعطى لهم بطرق ممنهجة ومنظّمة ويتقبّلون درجةً عالية من الشك (على مبدأ أنه لا نجاح دون مخاطرة).

ودعونا لا نبتعد كثيراً، فننظر بعين التقدير إلى الإمارات العربية المتحدة وندرك إلى أي مدى يمكن للعالم العربي أن يصل، بوجود الإرادة السياسية. وقد دفعت الرؤية الواضحة والإرادة الصلبة الإمارات إلى مصاف أرقى الدول المتقدمة. فالحكومات الإقليميّة والاتحاديّة، والفعالية في عالم الأعمال، والشفافيّة وانعدام الفساد، والاقتصاد المزدهر، والأمن المستتب، والبنى التحتية التنافسية، والقيادة الرشيدة، تلغي أيّة أفق قد تحدّ ما يمكن للبلد تحقيقه: وتشكّل شركة خطوط طيران الإمارات مفخرة قطاع الطيران العالمي.

أصبحت الإمارات خليّة تقدّميّة الفكر ومصدر إلهام الانهزاميين في المنطقة. وتمتلك البلاد الأدوات الكافية لتحديد الثغرات وبناء الهيكليّات، والأهم أنها تملك اليوم أدوات الادارة.

لقد سبق للإمارات أن عدّلت قوانين اللعبة وقواعد إتمام العمل.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s